الخميس، 23 سبتمبر 2010

رسايل فان جوخ لاخيه قبل انتحاره




تعتبر رسائل فان جوخ خير شاهد على جميع
لحظات ومراحل حياته ابتداء من عام 1882م ، وكان معظم تلك الرسائل موجها إلى
أخيه ثيو الذي كان يساعده بلا كلل ولا ملل وبجميع الطرائق الممكنة ، والذي
لم يفقد الثقة به يوما من الأيام ، والذي لم يتحمل البقاء بعده حيا فمات
بعد أقل من ستة أشهر من موت أخيه بعد أن تدهور عقليا وبدنيا . وهناك أيضا
رسائل أخرى من "فان جوخ" إلى صديقه "أميل برنارد" ، ولكنها لم تنشر إلا في
عام 1950م . وهناك رسائل قليلة موجهة منه إلى والدته وإلى أخته. ومن رسائله
، يستطيع المرء إدراك رقته المنقطعة النظير وعطفه العميق وقصر نفسه بصورة
كاملة على مثله الأخلاقية والفنية .

ويمتلك متحف فان كوخ الذي يقع في امستردام على 700 رسالة كتبها فنسنت فان
كوخ ومعظمها كانت موجهة إلى أخيه ثيو . وحصل متحف فان كوخ من جامع تحف على
مجموعة من 55 رسالة جديدة كتبها الرسام الهولندي. وقال المتحف إن الرسائل
التي تم الحصول عليها حديثاً هي تراسل بين فنانين ولها أهمية كبيرة في فهم
آراء فان كوخ وتطوره. وقال المتحف أن فان كوخ كتب الرسائل - التي غابت عن
الأعين لمدة 60 عاماً- في الفترة من 1881 إلى 1885 إلى الفنان الهولندي
انطون فان رابارد الذي كان يعيش في بروكسل. وفي الرسائل التي تضمنت بعض
الرسوم لفان كوخ تبادل الفنانان النقاش بشأن أعمال كل منهما وأعمال أدبية
وفنية أخرى. وضعّفت عرى الصداقة بين فان كوخ ورابارد بعد أن انتقد الأخير
بشكل غير مألوف لوحة فان كوخ آكلو البطاطس وتوقفت الرسائل فيما بينهما فيما
بعد .


اعتاد الفنان فنسنت فان كوخ-1853-1890- على مكاتبة أخيه ''ثيو'' طيلة
اشتغاله على غمر أيامه ولياليه بالبياض المتجاسر على موهبة اللون
واندفاعه، طيلة تلك السنوات كاد يبوح وهو يكتب ما يأسره، كاد يفشي ما
لا يعرفه . واليكم الرسالة الأخيرة التي كتبها فنسنت فان جوخ إلى أخيه
"
ثيو" والتي وجدت في جيبه في اليوم الذي مات فيه هو اليوم التاسع والعشرون
من يوليو/ تموز عام 1890م .

عزيزي ثيو:

إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ أنه يفقد الأشياء بهجتها
ويقودنا نحو االكآبة... أنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد
بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها
الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي
يتعثر بصرنا بها كل يوم. كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي
كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار
الكامنة فيها. في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها،
في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذي
يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة... للأشياء
القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ
ذلك.

اليوم رسمت صورتي الشخصية :

ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي : أيها الوجه المكرر، يا
وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق في المرآة وأخرج ... واليوم قمت
بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان
ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة
ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن
الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسناً ماذا سأفعل بتلك
الكتلة اللحمية؟

أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع
الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها... الآن
أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل أن إصبعي السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من
ذلك: إنها ترقص وتب وتداعب بشرة اللوحة...

أجلس متأملاً :

لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر... آه يا إلهي
ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟الفرشاة. الألوان.
و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألواني واضحة
وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن
العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.

مازلت أذكر:

كان الوقت غسقاً أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكي يبلل خط
الأفق... آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت
البري. كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا"
الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش
صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مذعور...
ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ
ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض
قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة
ستغمرني لو أن ثقباً ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق البياض... يا لرعشة
الليلكي ...

الفكرة تلح علي كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟

كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا
الكوكب البهيج. أحدق وأحدق في عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي.
شيئان يحركان روحي : التحديق بالشمس، وفي الموت.. أريد أن أسافر في النجوم
وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا
المدماة .. ولكن إلى أين؟ - إلى الحلم طبعاً.

أمس رسمت زهوراً بلون الطين ..

بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة
رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح...
الغربان تنقر في دماغي. غاق... غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب
تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو
بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس:
القرمزي يسيل. دم أم النار؟

غليوني يشتعل:

الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي
أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر
بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر
تعلقاً بها... لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟!إنه الإخفاق
مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً... وفي نهاية الأمر لن يتحدث عنا سوى
لوحاتنا ..

وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع.





&&


تفردت ''الرسالة الأخيرة '' بطريقة
مختلفة لقول الصعب، لصياغة الجمل اللازمة لتعريف سر اللون، علاقته
بالطبيعة، حركته الدائمة في نبض روحه المتصاعدة نحو الأعالي، ليس ذلك
فحسب بل تفسير السر، السر الذي صاحبه وهو يحيا صعوبة الحياة وندرة الأمل
.

هي الرسالة الوحيدة المكثفة بقدرتها على تكسير المشاهد العميقة في
ذاكرته. كأنه يكتب لذاته ما سوف يعرفه قبل الموت، أو كأنه يدون ما
يعرفه الموت عنه. موهبة متقدة تتخطى لغة المراسلة المكرسة في تلك
الحقبة، لكونها لا تتقن تنميق الكلمات، بل لا تصبر على خط حروف لا
تكتمل. رسالة غريبة وهي تأتي مبددة توالى المعاني والأخبار، كلمات
تمعن في تشويش المعرفة نحو اللون والطبيعة، ممهورة بالرغبة الكامنة في
اللحاق بغرابة اللحظة ذاتها.

هكذا قلق وتوتر موصول فعلاً باجتراحات لا بد منها لينضج المشهد أكثر،
ذخيرة حقيقية لتعليم الألم، للتدريب على حالة الذعر المصاحب للفن وهو
يتجرأ على العالم، أو يحاول تمثيله بأقل الحيل ارتباكاً. مثل هذا
المختبر لا يرتكز في عمقه على مبدأ التواصل الأخباري مع الآخر، كما
يراه البعض، ولا على تأسيس مكان للذاكرة، بل على تجويد خبرة الموهبة
وعلاقتها مع الأدوات التعبيرية ، أراد'' فان كوخ'' حتماً أن يكتب
لأخية ليخلق الجسر التواصلي بينه وذاته اولاً، ليعرف مبتغى كل هذا
التخريب الحادث لوقته أمام اللوحة ، قبلها، بعدها. كل موهبة لها أن
تتقصى مرادها وهي تقرأ رسائله، ببصيرة تماحك بصيرته وتقتص منها بهدوء من
يرى. سرد''فان كوخ'' لمشكل الفن التشكيلي ليس الا تعبيراً لفداحة
الفن بشكله العام، يتطابق مرتآه مع الفنون الأخرى، تلك الناهضة من القلب
لا الورق.

أن تكونالرسالة الأخيرةللفنان فان كوخ محملة بهذا السيل من التفاصيل
والتفاسير والحدوس حول العملية الفنية، كل هذا القلق والتوتر المتخفي بين
السطور، تمثل مشاهد الحياة عبر ادارجها في مخيلته لنرى على اللوحة الجذور
الهائجة المتفحمة والغربان المنتشره واللهيب اللوني الذي يستشرف الأفق،
الرسالة الأخيرة التى حققها وحيداً قبل الموت، منتحراً في غياب السنابل
الذهبية، بعد أن انجز العديد من التجارب الفنية التي تشي بمدى شسع رؤاه،
المذهل في هذه الكتابة التي عاندت الوقت وتنقلت عبر قسوة الاهمال والنسيان
التي عانى منها الفنانفان كوخ، قدرتها على ايصال حقيقة الموهبة، ومواضع
توترها امام البياض الذي يقف بمواجهة ابداع الحياة حيث الحقول والغيوم
والاشجار، حيث اللون الحي، تحد مهيب اضطلع به، وضاعفه بتمرير تلك المشاهد
كلها عبر مصفاة الذات، عبر نير التجربة الانسانية والروحية لديه، عبر سحل
اصابعه لتجيد البوح.

لا مكان امام مثل هذا العمق المبدع لحضور الأنا وزوادته من غرور شائع،
موهبة لاهية عن سرد نوازع الذات ومبالغاتها،كما يحدث عند الكثير من
الموهوبين الذين ما أن يبدأوا الكتابة عن تجاربهم الفنية، حتى تراهم
يتحولون الى مداحين يعددون منجزاتهم وما سعوا لتحقيقة وما قيل عنهم.. الى
آخر تلك العناوين الضاجة بالنرجسية ومآلاتها . هكذا نراه دوماً، في كل
رسائله التي تناولت اعماله المنجزة، ثمة اشارات تعدت الثمانمائة اشارة
نقدية، لم يكن يحاور أخيةثيوبل أدغم المشافهة بحديث روحاني خاص مع
البياض الخالي منه، اللوحة ببريقها العذب، ذاته المتوجعة، الحياة بكل
تفاصيلها المرحة.

مضاهاة الطبيعة تحديه الوحيد، امتيازه النهم وهو لا يتأخر عن كل رصد
لتحولاتها، اليأس والانكسار والهزيمة شكلت أهم المعابر التي كان من خلالها
يثير المواجهة تلو الأخرى، لم يصب بانهزامات معطلة عن النبوغ الابداعي
بالمعنى المتداول بل تحديات وحواجز استطاع مواجهتها فنياً بقوة الموهبة
ونفوذ طاقة التعبير التي لا تقهر.

دوماً عندما أتلهى عن وقتى الراهن بقراءة رسائل الموهوبين، اتلقى الدرس
مشمولاً بصمت عميق وتركيز على الهدوء الذي يسود كلمات تصوغ تجلياتها، كلما
اعيد قراءة السطر اكتشف اختلال المعنى الأول واحتلال المخيلة بمعنى آخر،
مختلف وأشد غوراً من الأول، وهكذا لا ينتهي الدرس الذي يتصاعد كما الزوبعة.

وبذات البندقية التي كان يطلق رصاصها في الفضاء، وهو أمام اللوحة ليتحصل
على مشهد حقيقي لطيور مذعورة تحلق في الفضاء، طيور تشبه روحه المشتته في
عالم لا يعي ما يحدث لهذه الحياة.. شد الزناد على صدغين صامتين على الدوام،
لنقرأ رصاصته الأخيرة




هناك 3 تعليقات:

  1. ラッキーニッキー ラッキーニッキー 제왕카지노 제왕카지노 우리카지노 우리카지노 카지노 카지노 bk8 bk8 481

    ردحذف
  2. Jumba Casino Resort opens with $250M welcome
    Jumba Casino Resort in Palm 강원도 출장샵 Springs, is a 경상북도 출장마사지 three-star venue conveniently located in a 영천 출장안마 state-of-the-art virtual 강릉 출장안마 stadium. Located in the 남원 출장샵

    ردحذف